منوعات

تأملات فكرية لما بعد وسائل التواصل الاجتماعي

هذه تدوينة بلا صور والكثير من الفضفضة *


في تاريخ ٢\٢\٢٠٢٢ قررت أن آخذ اجازة من وسائل التواصل الإجتماعي جميعها، سواء كانت شخصية أو مرتبطة بعملي

” انتبهت للمصادفة في اختيار التاريخ للتو، اختيار موفق يا أنا ”

وبعد خمسة أيام من هذا الصوم الإجتماعي الماطر، بدت تتضح لي جمالية الحياة وعذوبتها بشكل ذكرني لم كانت هذه المنصات مذهلة ورائعة في البداية، وكيف أصبحت لعنة شخصية علي ووسيلة ضغط نفسية لا أجد فكاكاً منها لتشعبها في جوانب حياتي الشخصية والعملية في آن واحد.

حتى أستطيع الحصول على فسحة الفراغ العقلية، اضطررت للتخطيط لوقت طويل حتى أقدر على تفريغ جدولي “الذي لايعتبر مزدحماً في مقاييس هذه الأيام بالمناسبة”. واستخرجت ٧ أيام قررت من خلالها أن أقطع كل وسائل التواصل الاجتماعي التي استخدمها ( تويتر-انستغرام-تيكتوك-سنابتشات ) حيث أملك في كل برنامج مالا يقل عن ثلاثة حسابات .وتصل بعضها إلى ٦ أو ٧ بين الاستخدام الشخصي أو الإدارة للعملاء الذين أعمل لديهم

في الحقيقة، مفهوم أن ” أتوقف عن العمل ” أو ” أن أترك مواقع التواصل الاجتماعي ” تعتبر مفهوم غريب بالنسبة لي، وقد استوعبت الأمر متأخر تقريباً، وهذا هزني بشكل كبير، وأوضح لي بعض أسباب القلق النفسي الذي اعيشه: حيث أني أثقلت على نفسي مالا تطيق وتركتها بلا حلول ترفه فيها عن نفسها بشكل صحيح وصحي، وبعد فترة كآبة طويلة نسبياً، أجد في هذه الأيام القصيرة ترياقاً طال انتظاره، فعقلي أصبح أوضح، وقدرتي على الكتابة عادت بشكل عجائبي “كما ترون، أستطيع أخيراً كتابة جملة أطول من ١٤٠ كلمة! ” وأيضاً القراءة لم تعد عذاباً ذاتياً أجبر نفسي عليه بسبب الأيام الخوالي لعلاقتنا معاً


أظن أن أحد مشاكلي الحالية هي الإرتباط المغصوب بين مفهومي العمل والكسب المادي “حصراً”. بالنسبة لي فالعمل لم يكن ذا نتائج ربحية مالية، بل شيء أفعله لكونه واجباً أو هواية أو حلاً لإشكال مستقبلي أسعى للتخفيف به عن “مشكلة” أو ضغط أتنبأ بحصوله.

لكن مع نمو مواقع التواصل الاجتماعي المهول خلال السنوات العشرة الماضية، ونشوء مفهوم الكسب المادي المباشر من صناعة المحتوى و “العمل” من خلالها، وانتشار وتشعب هذا المفهوم حتى أصبح يتغلغل في كل حديث عائلي يومي وهواية تنفيسية أو حتى رغبة ذاتية بتعلم أي شيء جديد، فيصبح حديث الذات عبارة عن ( سأتعلم هذا لأن مجال الربح منه عالى، أو كونه صرعة هذا الموسم وتعلمه يحفظ المكانة النفسية بين الأقران ) 

بدلاً من أن يكون اهتماماً محضاً أو فضولاً ذاتياً لتعلم شيء جديد فحسب. 

بالطبع فأنا لا أجرم أو أقلل من نوع المحفزات التي تدفع لتعلم أي جديد، لكن الاختلاف الكبير خلال فترة زمنية قصيرة نسبياً بالنسبة للتاريخ البشري أمر أعتبره شخصياً مثيراً للاهتمام ومقلق في آن واحد. 

ففي أن تتعلم لأنك تريد أن تنمي مهارة أو تكتسب عِلما، وأن تتعلم لأن مشهوراً قال بعبارة تسويقية أنك ستربح ألف دولار خلال أسبوع من خلال هذه المهارة التي ستتعلمها في ثلاثة أيام “وتتقنها”، متجاهلاً كل الاعتبارات المتاخمة لهذا النوع من التسويق الشرير الرخيص السريع الانتشار. 

فيصبح الإحباط والتثبيط الذاتي مترادف لكل مهارة “يظن” صاحبها أنها يستطيع أن يجيدها في ظرف أسبوع سريع وتسويقي، وأن الربح منها سيتبعه لامحالة، ففلان وعد بدلك، وأظهر شيكات إلكترونية توضح صدقه ( حتى لو كان متابعيه بعشرات الآلاف ومعارفه ذوي خبرات متعددة تدعم مهاراته وتساعده في الربح، بينما المتعلم الجديد لا يتابعه سوى نفر قليل من العائلة والأصدقاء، وبالتالي المقارنة مجحفة من الأساس، والوعد مكسور وغير واقعي إلا في عالم مثالي يربح كل من يعمل دون الأخذ بالاعتبارات أي تدخلات خارجية أو داخلية مؤثرة حقاً ). 

أستطيع قول ذلك من تجربة شخصية، فمن صنع المحتوى حصراً استمتاعاً بذلك بدايةً، ثم واجباً اجتماعياً كتبته على نفسي، ومن ثم إلى مشروع مادي أسعى لتكسب شخصي منه. 

هذا التنقل بين الأهداف أثر بشكل كبير جداً على العمل ورؤيتي له على الرغم من أنه لم يتغير بتاتاً “ فمازلت أعطي دروساً بعالم الحرف اليدوية وأساسياتها “. إذاً هذا التغير في رؤيتي لعملي، وطريقتي في العطاء وشعوري تجاهه أتى بشكل طبيعي نتيجة للتغير في المجال العام الذي أُعطي فيه: فمن تمبلر وعالم المشاركة، إلى مدونة متخصصة ومن ثم صفحات تفاعلية في وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت تتضائل من ناحية العطاء إلى أن أصبحت مقتصرة على انستغرام والقليل جداً من المقاطع التي تنزل متناثرة خلال السنة. 

أجد نفسي أرغب باستمرار في اقفال المدونة والبدء من جديد، في نفس المجال ونفس الطريقة القديمة، لكني أعرف يقيناً أنها محاولة هروب وعودة مستحيلة بالزمن إلى موقف عقلي كان غير واع بالمقارنة مع الفضاء الافتراضي ومحتوياته، وكان يركز على المشاركة فحسب. 


أحس أني بدأت أستلذ بمباهج الحياة البسيطة المتكررة، وماعاد كاتالوج المقارنة جاهز وواضح في عقلي ليخفف من الاستمتاع بما أفعله، وبالتالي الضغط النفسي عند محاولة تجربة أي جديد، أو عند مشاهدة مالدي حالياً أصبح أقل وأخف، والتنقل بين المهام صار أكثر سلاسة لإنعدام المشتت الذي كُنت ألجأ إليه بشكل غير واع في السابق. فلا تويته تحتاج إلى رد ولا محتوى تفاعلي في قصص انستغرام يجب علي أن أنشطه كل عشرة دقائق حتى ترضى الغوارثيمات على مستوى الحساب وقوته. كما أن القراءة أصبحت مهربي القديم الذي اعتدته، أفتح الصفحات وأعيشها دون أن أحس، نفس الصفحات التي كنت أجبر نفسي عليها إجباراً خلال الشهرين السابقين، نفس الكتاب الذي أتهرب منه إلى مقاطع تيك توك المضحكة بين كل جملة وأخرى أصبحت ألتهمه وأتعجب من المتعة التي أستغرقها بين جنباته معلنة أنه ” أفضل كتاب قرأته خلال هذه السنين” بعد أن أغلقته للمرة الثالثة اليوم. فهل كانت الوجبات العقلية الجانبية السريعة التي تغرق عقلي بمدخلات تافهة مئوية أو بالآلاف إن أردت أن أكون أكثر صراحة مع نفسي هي السبب في جعل قدرتي على الاستمتاع بالانغماس في فكرة أو نص طويل مستمر صعب وشبه مستحيل طوال هذه السنوات ؟

أو أن الولادة ورعاية الطفل جعلني في ضغط نفسي وجسدي أجبرني غصباً على أن ألتفت لكل ما أمارسه مهما كان بسيطاً في نظري ومحاسبته حتى أستطيع فلترة مايسعدني ويخفف عني الضغط وازالة مايزيده ويتسبب في كوني أُما أقل فاعلية؟

أم أن الكِبر في العُمر والنضوج العقلي يجعلك تبدأ في تمحيص عاداتك العشرينية ومحاولة تعديلها لحياة أكثر جودة؟

في الحقيقة لا أعرف الجواب بالضبط، لكني أظن أنه خليط من كل هذه الاحتمالات، وسعيدة جداً أني أتحت لنفسي هذه الفرصة النادرة من الفراغ الحقيقي الذي أستمتع فيه مع نفسي وطفلي وبيتي، بلا عمل أو تفكير به أو تخطيط له. حيث أن نفحة التغيير التي أعرف أنها قصيرة ساعدتني في أن استمتع بالوقت بشكل ملائم ومناسب والحمدلله.


كيف أقضي وقت فراغي؟

الكتاب الذي أقرأه الان :

ميثولوجيا الأيام بواسطة عبدالله محمد العقيلي

أشاهد الآن :

سلسلة التزكية للمصلحين : محمد السيد

رأي واحد على “تأملات فكرية لما بعد وسائل التواصل الاجتماعي

  1. جميل جداً ماقلته اتمنى حقيقةً التخفف من ضغط وسائل التواصل الاجتماعي مع العلم اني لا استخدم غير الانستقرام وتويتر، وحقيقةً تستهلك وقت كبير وجهد دون أن نشعر تراودني الفكرة كثيراً وقد اقوم بها يوماً ما
    اصبح تعلقنا بهواتفنا والأخبار والصيحات فيها كبير جداً مما جعلنا نتجاهل عاداتنا القديمة والبسيطة التي كانت تشحن طاقتنا وتغذينا دون أن نشعر، كانت بدايات هذه الوسائل جميلة وبسيطة ولها فوائدها ومازالت فوائدها موجودة ولكن مع الأيام أصبحت مرهقة ومضيعة للوقت بناء على كثرة المشتتات والمحتوى الغير هادف
    شاكرة لك التدوينة الجميلة اتمنى لك أيام اكثر هدوء وسلام
    ملاحظة: أحب التدوين وما زلت مع أني لا أمارسه وكان من أحلامي امتلاك مدونة فلا تتخلي عن هذه الميزة لديك🌸

وما رأيك أنت؟

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s