قصص وخواطر .. ||

طِفلٌ يترقبُ القمر- الجزء العاشر –

مئة عام مرت منذ بداية الحرب، وثمانون سنة مرت منذ نهايتها.
هذه القاعدة المطلقة عرفتها من صغري، حفظتها ورددتها مئات المرات في المدرسة .
ليست معلومة مهمة أو تؤكل عيشاً ! فمازال السكان يعانون من آثار حرب تجار الألماس الذين قويت شوكتهم منذ نهاية الحرب نتيجة إكتشاف مناجم ألماس لم يوجد لها أثر من قبل !
بالطبع ظهور هذه المناجم كان بسبب القنابل المتساقطة تتالياً التي حفرت الأراضي عميقاً كفاية لتظهر قطع الألماس منادية للتجار أن أخرجوني!
وأجاب التجار النداء مسببين أزمة إقتصادية ثانية مباشرة بعد الأمل العالمي في تجاوز الأزمة الناتجة من الحرب الطويلة المُتعبه.
لكن الأمر لم يتوقف على هذا الحد ! فالشركات الضخمة بدأت نوعاً من تجارة الرُق في الدول التي تضررت أشد الضر من ويلات الحرب عبر إستدراج العائلات وإحتجازها في مراكز خاصة لتوظيف الأيدي العاملة في الإستخراج والصياغة.
تصاعدت -بالطبع- أصوات الإحتجاجات والإضرابات حول تلك الدول، لكن تلك الشركات دُعمت من الحكومة الجديدة التي بهرها بريق المال وقامتا بإعدام علني للمحتجين مع أخذ عائلاتهم للعمل في تلك الأراضي.
ونتيجة لتصاعد قوة الشركات وتزايد نفوذها قامت بعزل كُل العاملين لديها وعائلاتهم عن العالم الخارجي، مُقدمة لهم الكثير من المعلومات المغلوطة بدون أن تسمح لأي منهم بالخروج خلف حدود أراضيها.

هذه القصة بالذات غير قابلة للتصديق !
كيف لمجموعة من البشر أن يعزلوا عن باقي العالم ليصبحو عبيداً لتُجار الألماس ؟!
كيف لا يكتشفون أن العالم الذي بُني لهم مُجرد خدعة زائفة ويتحررون منه ؟
لم أستطع التوصل إلى جواب لهذا قط، في الحقيقة لقد نسيت موضوع الأراضي الغنية بالثروة والعبيد المحتجزين فيها تماماً حتى إنتشرت في القرية شائعة عجيبة !
ردد الجميع بأن قافلة التجار وجدت مجموعة من العبيد الهاربين من المنجم الغربي ، وأن حالتهم كانت سيئة جداً لدرجة أنه لم ينج منهم سوى رجل واحد مُصاب، وهو الآن في منزل الضيوف الخاص ببيت سلمى العجوز، صاحبة المخبز الكبير .
والدي يعمل في الطاحونة عند مشارف القرية، هي أقرب إلى بيت سقاية من طاحونه ! فالمحصول من القمح بالكاد يكفي لتغطية الإحتياج اليومي، لذا دائما ترتحل القوافل لإحضار بعض القمح والشعير ومبادلته بالخزف أو الأدوات الحديدية التي يصنعها أهل القرية، فمعظمنا حرفيون نعمل في النحت والحدادة والنجارة.
لدى والدي علاقة طويلة مع سلمى العجوز، لا أعرف ماهي بالضبط لكن سمعت إشاعة بأنها قد رفضت عرض زواج من أبي في أيام شبابهما، إذ أنها لا تنفك تذكره بُحبه الذي أماته رفضها المُتهكم، في الحقيقة لا أستغرب رفضها لوالدي لأنني سأرفضه أيضاً لو تقدم لخطبتي !
من يرغب برجل يُحب أكل اللحم والنوم على مدخل منزله أثناء الظهيرة ؟
لا أظن أنه سلوك “يجذب” النساء كالفراش إلى قامته الممشوقة القد ! فهو كحشرة اليعسوب طويلٌ ونحيل وله بطنٌ مُترهله ، صدقني يا أبي أي امرأة تراك ستهرب كقطيع أغنام خائفة ها ها ها !
آه صحيح، لايجب أن نسخر ممن هم أكبر منا عمراً، وخاصة الوالدين، آه نعم لايهم !
سأذهب اليوم لأوصل الطحين إلى خالتي سلمى، وسأعتني بذلك العبد الهارب أيضاً، إذ إن خالتي مريضة نتيجة تبدل المناخ جراء تقلب الفصول . سيدخل الشتاء قريباً وهذا يؤثر على آلام مفاصلها مما يجعلني دوماً أهتمُ بها ، عملية مُرهقة حقاً إن أردتم سؤالي !

أنهيت تسريح شعري الطويل وعقدته، لبِستُ فُستاناً أخضر باهت نتيجة كثرة الإستعمال مع ورود مُطرزة على أطرافه بألوان الشفق المتدرجة، إرتديت حذائي الأسودين الخاصين بالعمل في الطاحونة ، فلست ذاهبة إلى حفلة لألبس حذائي الجيد!
– أسبوعين فقط وينتهي الأمر !
رددت في نفسي، لا أُحب الأوامر الغريبة التي يُلقيها أبي وهو مُستلقي أمام باب المنزل !
– غداً يابنتي ستعيشين عند تلك العجوز وتساعدينها في العناية بضيفها ! إرتدي فستانكِ الأخضر .
هذا ماقاله وهو يحك معدته المتمددة أمامه ، حسناً ليس وكأنني أملك عملاً لأتركهُ هُنا على أية حال !
سأحظى على الأقل بفرصة لقاء ذلك الرجل العجيب.

خرجتُ لأودع والدي، لم أجده أمام الباب أو في الطاحونة ذهبت إلى الحديقة الخلفية لأروي شتلات الخُضر فإذا به يرويها :
– سأذهب الآن .
أومأ رأسه وأكمل السقاية :
– رافقتكِ السلامة .
تململ قليلاً وقال :
– إحذري من ذلك الرجل، لاتقرتبي منه، أنهي أعمالكِ وأرجعي إلى غرفتكِ.
مهلاً لحظة ؟ أبي ؟ ماقصة هذا الإهتمام المُفاجئ ؟ و ارجعي إلى غرفتكِ حالاً بعد العمل ؟
– أبي هل أنت بخير ؟ أنا أذهب دوماً للعناية بخالتي. لماذا تتصرف وكأني سوف أهاجم من قطيع مجرمين وأقُتل ؟
رفع والدي الوعاء إلى الأعلى وأومأ برأسه، إقترب مني وضمني بقوه :
– أنتي طفلتي الوحيدة والغالية، سأشتاق لكِ صغيرتي .
– إنها مجرد أسبوعين أبي ! لاتصبح عاطفياً فجأه !
إبتعدتُ مِنه خائفة ! مالذي يحدث بحق السماء ! أبي من بين جميع التصرفات الغير متوقعة منه يقوم فجأة بتقمص دور الأب المثالي ؟!
– أبي هل أنت سكران ؟ لن يحدث شيء ! سأذهب فقط لأساعد خالتي سلمى وأراقب ذلك العبد المجروح حتى يُشفى !
تنهد والدي ورفع يده إلي محذراً بلهجته المُعتادة – مما أراحني بالطبع ! – :
– إسمعي أيتها المتحذلقة الصغيرة ! إياك أن تقتربي من ذلك الرجل ! إياك أن تتحدثي معه أو تجلسي بقربه أو حتى تتتلاقا أعينكما !
– أنت تُخرف !
وجه والدي أصبح أحمر كحبة طماطم ناضجة وصرخ بغضب :
– ولن أسمح أبداً أبداً مهما كان السبب بزواجكِ من رجل خارح القرية !
آه ! عرفت السبب ! كل هذا الإهتمام المُفاجىء ودور الأب القلق ! لن يسلمني لرجل آخر ! ها ها ! لقد سمعت هذه الأسطوانة مئة مره ! لن أتزوج من حرفي أو فقير أو رجل أكبر مني عمراً أو حتى أصغر عمراً أو أمير – حتى لا أقتل بسبب خلافات الوراثة أو العرش- والآن أضيف هذا الرجل المسكين إلى قائمة الممنوعات !
– أوه كفاك الآن، من قال أنني سأذهب لأثير إعجاب رجال القرية أو لأتزوج ! لقد مللت من هذا الموضوع !
– لكن ياعزيزتي جمالكِ لن يترك لهم خياراً آخر ! سـ… سـ..
لم يستطع أبي إكمال جملته لأن عينية إمتلأتا بالدموع وبدأ بإسطوانته المعتادة عندما يأتي موضوع الزواج :
– لقد ورثتِ جمال أمك وشخصيتي الجذابة ! لو تعرفين كيف يمكن لهذا أن يصيب أكثر الرجال العقلاء بالجنون ! جمالكِ لن يترك لهم فرصة ليفكروا ! فكرة ترككِ تذهبين للقرية حيث كُل أولائك الرجال المجانين .. إن والدكِ …. إن والدكِ …
– تركت العشاء على الطاولة، وداعاً.
القرية تبعد 20 دقيقة من الطاحونة، لذا أُحب مراقبة السماء والأعشاب البرية أثناء الطريق.
بالرغم من أنني لا أعرف شيئاً عن الأعشاب والأشجار وأسمائهما، إذ أنني لا أستطيع حقاً التفرقة بينها ! فكل الأشجار تبدو بالنسبة لي متشابهة والأعشاب كذلك ! لذا أستسلم والدي منذ وقت طويل في تعليمي الزراعة.
وصلتُ إلى منزل خالتي سلمى، كان الباب مفتوحاً مما ينبئ بوجود بعض الضيوف، دخلتُ وتركت حقيبتي الصغيرة بجانب باب المطبخ :
– خالتي سلمى ؟
– أوه جُمانه !
خرج الطبيب من غرفة الضيوف مُبتسماً :
– إنها في الحديقة الخلفية تجمع بعض النعناع، لقد إنتهيت من فحص “لاما” الآن، أرجوكِ أخبريها بأني سأعود بعد ساعة لأحضر الدواء .
آه ! لابد من أنه يتكلم عن ذلك العبد المُصاب ! لكن مهلاً لحظة ! ” لاما” ؟! ماهذا ؟ أي عائلة تسمي طفلها “لاما” ؟ هل أنتهت الأسماء حول العالم ؟
– أوه حسناً لا بأس ..
أغلق الطبيب الباب وخرج من المتجر، طبعاً نحن نقول “متجر” و “مخبز” ، لكن في الحقيقة هو مجرد بيت عادي، تقوم خالتي سلمى بالخبز في مطبخها ووضع الخبز في طاولة كبيرة في الصالة، حيث يأتي المشترون ويجلسون ليتحدثون أو يشربون القهوة بينما يتناولون الخبز.
وحالما يهبط الظلام يعود المنزل ليصبح منزلاً ولا يدخله أحد حتى صباح اليوم التالي !
لا أعرف كيف تحتمل خالتي سلمى هذا النوع من الإزعاج المتتالي ! من ناحيتي لن أسمح لأحد أن يضع قدمه داخل منزلي دون أن يطرق الباب وموعد مسبق أيضاً !
آه لايهم، أنا جائعة وأرغب بتناول بعض الطعام ! سأذهب لخالتي سلمى وأخبرها برسالة الطبيب ثم أحضر لي بعض الخبز الشهي ..


صوت تحطم هز البيت الصغير وأخاف “جُمانة” ! إلتفت الفتاة مرعوبة نحو مصدر الصوت خلفها :
– أوه ..
صوت مبحوح مُتعب صدر من “لاما”، بشرته شاحبة ونفسه مُتقطع !
لقد تعثر بكرسي حركته “جُمانة” أثناء تفكيرها وسقط في الأرض !
تجمدت الفتاة بمكانها مُندهشة ! فصورة العبيد المحتجزين تحت الأرض ليعملون طوال عمرهم دون معرفة العالم الخارجي مختلفة تماماً عن هذا الرجل الطبيعي جداً جداً جداً !
تحركت بسرعة ووضعت يدها خلف رقبته :
– أوه ! ولا يشمون رقابكم أيضاً !
– المعذرة ؟
ضحكت جُمانة وساعدت “لاما” على الوقوف والجلوس على كرسي آخر :
– آه لابأس، أنا جُمانه، سأعمل هنا في الفترة الحالية، سُعدت بلقائك لاما .
ابتسم “لاما” دون أن يفهم تماماً الموقف أمامه، لكن “جُمانة” لم تبقى لتتركه يسألها أو حتى ليستوعب ماحدث:
– إنتظر هُنا سأذهب لأحدث خالتي سلمى ثم أحضر العشاء لنا جميعاً !
ذهبت الفتاة بسرعة إلى الحديقة الخلفية كما ظهرت أمامه !
كان ” لاما” مندهشاً، ليس لرؤية فتاة شابة جميلة فحسب، بل لتصرفاتها أيضاً !
– هكذا هُم أطفال الأرض إذن !
تمتم بينه وبين نفسه في عجب مليء بالحماسة.

Posted via m.livejournal.com.

وما رأيك أنت؟

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s