قصص وخواطر .. ||

طِفلٌ يترقبُ القمر- الجزء التاسع-

أصوات أطفال سعيدة بالخارج، نفحات الهواء الباردة تلطف خصلات شعره المتعرق وتحركها بلطف فوق جبهته الكبيرة السمراء.
الضحكات والصرخات الفرحة تعلو وتنخفض بدون رتم محدد، فالقافلة وصلت أخيراً إلى مبتغاها بعد أسبوع شاق من المسير، ولابد أن عائلات وأطفال التجار والمرتحلين في القافلة سعيدة بوصولهم وتحتفل الآن بكل بهجة.
صديقنا إثنان وأربعون، على كفة أخرى مازال ممداً على حصيره يراقب فتحة الباب للغرفة الطينية التي وضعوه فيها رجال القافلة، ولم يتحرك من مكانه منذئذ، فقط بقي يراقب فتحة الباب ويستمع إلى أهازيج النسوة وضحك الأطفال الصاخب في الخارج.
لم يكن إثنان وأربعون شخصاً مرتاباً أو شديد القلق، هو سعيد لأنه إكتشف وجود عالم آخر غير “علب الكبريت” و ” التنقيب تحت الأرض” ، سعيدُُ أنه يوجد حقاً مكان يستطيع فيه البشر النظر إلى السماء الزرقاء والشعود بنفحات الهواء تدخل مسامات جلده بينما أشعة الشمس تُعمي عينيه بأشعتها الساطعه ..
سعيدُُ لأن السهل الأخضر ذي الغزلان الراكضة وأسراب الحمام المهاجرة قد يكون فعلاً حقيقه !
إنه مغمور بشعور السعادة الذي يتغلغل في أوصاله كل صباح رغم آلام جسده وجروحه ، إنه سعيد لأنه حي، ولأن الأرض التي حَلِم بها حية أيضاً ..
بالرغم من شعور الفرحة الغامر بحقيقة العالم الخيالي الذي حلم به، وسعادته بتحقق نبوءة صديقة بالقرية العجيبة التي تعيش كما كان “البشر” يعيشون منذ بدء الخليقه، لكنه في نفس الوقت يحارب شعوراً حاداً بالحزن لرفيقيه، للاما الأحمق المتحمس نحو حلمُ كان يبدو محالاً، ولذلك الفتى الصامت الذي بالكاد يستنشق هواء السماء، حزين لأن هذان الفتيان هما من رغبا أشد الرغبة بالعالم الجديد، حِلما من أجله، رغبا برؤيته وقدما أكبر التنازلات للوصول إليه … وعندما أصبح على بعد خطوة واحدة ، خطوة واحدة فقط تبعد عن حلمهما، ذهبا، للأبد !
مهما كانت قوة أحلامك ورغبتك بتحقيقها، مهما كان عملك شاقاً وجهدك متواصلاً للوصول إليه، فخطُ الحياة لن يمهلك أكثر من وقتك ، مهما كانت قوة رغبتك وعظيم قوتها، حالما ينتهي الخط، تنتهي الحياة، تتوقف الأحلام، يصبح كل شيء أسود كظلام القبر ..
إنتهى …


إبتسامة هادئة إرتسمت على محيا إثنان وأربعون للحظة وجيزة تلاشت بسرعة كما تكونت :
– مازال الأحمق المتعلق بسلسلة الخشب التالف المنحوتة حياً.
” السلسلة !” تذكر إثنان وأربعون السلسلة التي صنعها من قطعة الخشب القديمة التي وجدها في أول رحلة تنقيب له، بحث عنها في جيوبه والدرج بجانب السرير توقع أنه أسقطها أثناء الهزة الأرضية وضاعت منه.
– آوه .
تنهد إثنان وأربعون وإستلقى من جديد في سريره متعباً من كثرة حركته، أصوات الضحك والحياة بالخارج أصبحت معتادة لأذنيه الآن وتحولت إلى صمت مزعج مطابق لصمت أجهزة الحفر في المصانع داخل القرية، السقف المبني من الطوب أصبح عادياً بقدر جدران الإسمنت التي كانت تحيط بصره منذ خُلق، أشعة الشمس الساطعة تبهر عينيه بإعتياد كما أعتادت أضواء المصابيح الحمراء أن تُعمي عينيه كلما تجاوز حدود القطاع ليلاً .
” أهذا هو .. الحزن .. ؟”
لم يكن شعور “الحزن” لفقد أحدهم شيئاً يمكن تعلمه مع التقدم بالعمر أو العيش وكثرة السفر، ببساطة هو شعور لاتعرفه حتى يجتاحك، ومع فقده السابق لأصدقائه في الميتم، إلا أنه في تلك الفترة لم يكن شعوره حزناً بالمعنى الصريح، كان أقرب إلى .. الإشتياق ..

– كيف حالك يارفيق ؟
– أوه، جيد شكراً لكرمك سيدي .
دخل رجل متوسط العمر بوجه باسم وبيده صينية طعام مغطاة، وضعها على السرير وقال بإبتسامته الهادئة :
– كيف حالك الآن ؟
– جيدة سيدي.
– ماذا عن ذراعك ؟ أخف الألم ؟ أعتذر المهدئات قليلة هُنا لذا نستخدمها بقليل من الحذر .
– أوه ، لا لا بأس، إني ممتن حقاً لمساعدتك العظيمة سيدي . كُل شيء على مايرام .
– ……. أوه، جيد .
رد الطبيب الشاب كان يحمل بعضاً من الإرتياح، فالأدوية هُنا شحيحة أصلاً عدا عن الشكوك حول جدوى معالجته أصلاً !
إنتظر قليلاً حتى بدأ إثنان وأربعون في تناول طعامه حتى أخرج سلساله الخشبي ومده إليه :
– لقد وجدنا هذا السلسال عندما إنتشلكم رجالنا .
– أوه ! لم يضع إذاً … جيد .
– أليس مهماً ؟
– لا سيدي، إنه مجرد منحوتة .
– نحته بنفسك ؟
– نعم سيدي.
أخرج إثنان وأربعون رغيف الخبز وحاول إمساك الأرز به، لكن حبيبات الأرز تستمر بالسقوط ثانية في الإناء، حزر أن هذا الطعام الغريب لايؤكل بالخبز لذا قرر الإستغناء عن تجربة طعمه أمام الطبيب على الأقل والإكتفاء بحساء الخضروات والخبز .
– هذا أرز، تأكله بأطراف أصابعك .
قال الطبيب باسماً وهو يراقب تصرفات إثنان وأربعون بدقة، إبتسم الأخير بخجل مصطنع :
– ظننت أنني سأجربه لاحقاً .
– أوه لابأس لا بأس، الأرز غير مشهور في المناطق الغربية ، لذا الأمر ممتع ..
– أوافقك الرأي سيدي، مُشاهدة مجموعة رجال يصابون بحيرة عظيمة لكيفية أكل هذا التراب الملون دون أن يكتشف أحد أنهم لم يروه قبلاً !
– ها ! تراب ملون هاهاهاها، الطباخة ستجن إن سمعتك .
تشارك الرجلان الضحكة القصيرة أتبعها صمت طويل، أنهى إثنان وأربعون طعامه ووضع الصينية بطرف السرير الآخر، رتب طرف الفُراش وإعتدل في جلسته شبه المستلقية نتيجة إصابة قدمه التي تمنعه من الجلوس بشكل مستقيم. كان الطبيب يوجه تركيزه الكامل عليه، نظرته لم تكن خطرة ، إنها أقرب إلى نظرة طفل مليء بالفضول المُشرب بحماس الإكتشاف .
– لاتبدو خطراً .
قال الطبيب دون أن يتحرك من مكانه أو تتغير نبرة صوته، بدا وكأنه يحادث صديقاً قديماً.
– أنت أيضاً .
رد إثنان وأربعون بنفس النبرة :
– لكني ممتن حقاً لإنقاذكم لي سيدي، أتمنى ألا يكون قد سبب هذا الكثير من المشاكل للقرية .
– أوه لاتقلق، ستدفع كُل فواتير علاجك حالما تُشفى .
إبتسم الطبيب ووقف ليخرج :
– لكن الآن أرجو أن ترتاح جيداً، النجار يصنع لك عكازين وقد ينتهي صباح الغد ! سنحضى بنزهة حول القرية إن أمكن !
إبتسم إثنان وأربعون وأومأ برأسه، لم يكن مُتعجباً أو سعيداً أو خائفاً، هُنالك شيء غير طبيعي مع هذا الرجل، إنه يذكره بأحدهم، أسلوبه المزعج في التعليقات، إبتسامته المتواصلة، تحديقه، يبدو كُل هذا مألوفاً له، لكنه يعرف أن إحتمال تطابق الشخصيتين مُستحيل .
” يخلقُ من الشبه أربعين ” ، ردد بداخله وهو يراقب الرجل يخرج من الغرفة ويغلق الباب خلفه بحذر .
أمضى إثنان وأربعون ماتبقى من النهار يفكر بإسم ملائم له ليتخذه من الآن فصاعداً، فهو لم يجب على أسئلة الرجال الذين سألوه عن إسمه، لم يُرد أن يُنادى برقمه، لم يكن يُحب رقمه قط ! لكنه بنفس الوقت لم يفكر بإسم يمكن أن يُسمي نفسهُ به .
” يفترض أن يُقرر إسم الطفل قبل ولادته، وليس بعد خمسة وعشرين سنه ”
همهم إثنان وأربعون بتهكم، لا يجد إسماً يُمكن أن يشعر بأنه خاصٌ له، يُعبر عنه ويصفه بكلمة واحدة !
لطالما كان الناس يتصرفون وفقاً لأسمائهم، ولم تكن الأسماء تتغير طبقاً للشخص وصفاته !
– لاما إختار للفتى إسماً عجيباً، ذلك الغبي كان مهووسٌ بجمال وقعه .. شـ.. شعـ … شمع !
نعم ! ذلك الفتى الذي بدأ بكل الأمر، السبب في الهروب الكبير، السبب في تحقق حُلم لاما بالوصول إلى القرية التي يعيش بها البشر “الحقيقيون” بعيداً عن القرى المعزولة، والسماء الزرقاء ذات الهواء المعتدل كما تمنى هو دوماً أن يراها ..
– شمع فليكن !
قالها إثنان وأربعون بصوت عالِ، فقد تم الأمر، منذ اليوم سيصبح إسمهُ ” شمع” ، تماماً كذلك الفتى.

مضت الأيام التالية هادئة مليئة بالمعلومات الجديدة الممتعة بالنسبة لإثنان وأربعون أو “شمع” كما قال لأهل القرية. الطبيب إستمر بنزهاته الصباحية معه وتعليمه كُل تلك المهارات والأشياء التي لا يعرفها، أهل القرية كانو كرماء كفاية ليسمحو له بقضاء باقي اليوم حتى الغروب في مزارعهم أو بأحد الحانات المتوزعة عند مداخل القرية .
أصبح “شمع” خلال عدة أسابيع جزءاً من كيان هذه القرية الهادئة، والقرويين أسقطو إتهاماتهم تجاهه أيضاً، فشخصيته البسيطة المؤدبة جعلتهم يحبون وجوده معهم وينسون شكوكهم، على الأقل مُعظمهم فعل …

Posted via m.livejournal.com.

وما رأيك أنت؟

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s