عِندما كُنتُ طفلاً، لطالما تسللت في المنطقة باحثاً عن مغامرة جديدة، مُتخيلاً أنني مُنقب مشهور وجد أرض الأحلام المليئة بالنباتات البرية والمشمسة طوال العام.
كُنت أتسلل إلى البيوت، والمصانع، كُنت أجمع الأحجار الغريبة إيماناً بأنها معدن ثمين تأكسد مع مرور الوقت وتحول إلى حجر مُغبر قبيح !
وفي إحدى رحلات التنقيب التي قُمت بها، وجدتُ غرفة في أحد المصانع، كانت غرفة قديمة مهجورة، بقفل حديدي هرئ وبابٍ شبه مُقفل مليء بالغبار وشباك العناكب، وكأي طفل مُلئ فضولاً دخلتُ إلى هُناك !
كانت غرفة قديمة، مليئة بالغبار الذي محى مُعظم ملامحها الأصلية !
بأرضية خشبية متكسرة، بطاولة في وسط الغرفة تحوم حولها كُل أنوا الحشرات الغريبة بسبب الطعام المتعفن فوقها، وتلك الرائحة النتنة للهواء المحبوس لمدة طويلة !
تلك الغرفة، تبدو تماماً كالعالم الحقيقي ، كالأرض التي أحلم بالصعود إليها وتنقيبها !
وكطفل وجد كنزاً، ذُهلت، سعدت وامتلئت بهجة بالكنز الذي وجدته ! وبدأت بكل جد وحماس بنفض الغبار وتفحص الملفات وتهوئة الغرفة ، لقد كُنت أُنقب عالماً صغيراً خاصاً بي ، عالماً سيكبر مع سنوات عمري وسيُغطي الأرض بأكملها !
سأجوب السهول والبحار، سأصعد فوق الجبال وأقتات من حشاش الأرض، سأُغامر حتى لا أترك صخرة إلا قلبتها !
هذا ما أريد فعله حين أكبر ، لذلك هذه الغرفة تحت تصرف المنقب العظيم إثنان وأربعون الذي ستبلغ شهرته الآفاق ، – أو هكذا ظننت حينها، بتلك اللحظة عندما وجدت الغرفة – .
بعد أيام من البحث والعبث بمحتوياتها، وجدتُ تحت خشب الأرضية المهترئ، – الذي تبين أن وجوده مجرد غطاء إضافي للأرضية الحجرة – كان يحمل تحته ممر سري !
إمتلئت عروقي حرارة وحيوية ! وطفقت أُزيل الخشب واحداً تلو الآخر لأتمن من العبور في ذلك المرر، وحالما إتسعت الفتحة مايكفي لأحشر جسدي داخلها، دخلت، بمصباح صغير حرصت على أن – أستعيره- من أحد عمال المصنع دون أن يشعر بفقده.
غرفة صغيرة مظلمة، هذا نهاية ممري السري، غرفة واحدة دون أي وسائل تهوئة أو تجديد للهواء، صغيرة جداً حتى بالكاد أستطيع أن أمطط ظهري دون أن أصطدم بالسقف أو بأحد الجدران حولي !
لكن في وسطها تماماً كان يوجد كتاب، مُهترئ وقديم جداً.
كان مفتوحاً، فمررت مصباحي فوقه وقرأت بعد أن أبعدتُ أكوام الغبار عن وجهه :
قلبتُ كرسي عرشي :
فحين أزهو وألهو
أصوغ، في السّر، نعشي
وحين أتعبُ، أمشي . *
كان النص غريباً جداً وغامضاً أيضاً ! لم أفهم سوى أن الرجل هُنا ملك يحتضر !
لم يعجبني مُحتوى الكتاب ، فقلبته بعنف قليلاً مزق معظم الصفحات التي وقعت في يدي !
لكن قررت أن أقرأ نصاً آخر !
فأنا مُنقب ! وقد أجد معلومة عن نهر الحياة المختبئ في أعماق الأرض !
فتحت صفحة جديدة ووعدت نفسي أن أقرأها وأخرج حالاً، فالغبار هُنا يملأ المكان ويكتمه بشدة تصعب معه عملية التنفس ، لذا قرأت نصاً شبه ممسوح من الصفحة :
رأسه تحت وجهه
والعصا فوق رأسه
….. بيأسه،
و …. تخثرت …. مِلئ نفسِه .
خلف عينيه قصة
………….
جِذعها الشك و ……
و …………….
عمره شّقُ حفرة، وسراديب تُبتكر ،
هو دنيا طويلة، برغيفين تُختصر .
غده خلف أمسهِ
وحناياه …………… مشتلُ ،
كادت الأرضُ تجفلُ، حين همت بلمسهِ
………………… …….. ………
……….. ………. …… ………
…….. ……. ……..
قلبهُ خيط سنبلِ
وإختلاجاته قصب
رب جفنين من حطب، رفرفا عبر هجسه :
لا تقل مات يأسهُ
نبضه سّر يأسِه. **
الكثير من السطور الممسوحة بفعل الزمن أو التي طالها التمزق وأكل العثة، لم أفهم كثيراً رغم أن النص أوقع كآبته علي، أحسستُ بالإختناق فخرجت سريعاً إلى السطح لأجد عامل المصنع الذي أخذتُ منهُ المصباح ينتظر في الغرفة بغضب.
ذلك اليوم عُوقبت بشدة لخرقي حظر التجول في الوحدة، وهدم المصنع تلك الغرفة .
لم يتح لي أبداً فُرصة العودة وقراءة ذلك الكتاب الكئيب مرة أخرى.
—
إستيقظ إثنان وأربعون بعد يوم من إنقاذه من تحت الأنقاض، كان قد نُقل كُلا منه و “لاما” إلى خيمتين منفصلتين، بينما “شمع” فقد مات إختناقاً تحت الطين والطمى .
في الخيمة التي نُقل إليها إثنان وأربعون يتوافد الأطباء والخدم، يعالجون جراحه تارة ويضعون عنده طعامه الذي بالكاد يلمسهُ تارة أخرى ..
بينما في خيمة “لاما” لا تتوقف صرخات الألم وصيحات الوجع بين ساعة وأخرى ! فقد تهمشت قدمية تحت إحدى الأحجار المتزحزحة .
ونتيجة لذلك فقد بُترت قدميه وهاهو يعاني الآن من آلام عظيمة متجددة ، آثر زعيم القرية أن يبعد هذين الصاحبين حتى لا يتأثر أحدهما بأوجاع الآخر وآهاته !
في خيمة الزعيم إختلف الأمر، فالقافلة أوقفت تقدمها بسبب هاذين الغريبين اللذان وجدوهما !
بسبب الهزة الأرضية المباغتة القوية التي غيرت سطح المنطقة وشكلها ، إضطرت القافلة أن تغير مسار رحلتها فتعبر أرض الموتى لتعود إلى الطريق المعتاد، وبعبورهم أرض الموتى فقد وجدو النبع المتفجر وهؤلاء الغرباء الثلاثة !
ليس من الغريب -بالطبع- ملاقاة جثث موتى في طرق القوافل، لكن أن تكون بأرض محرمة لا تطأها قدم هُنا مربط الفرس !
فالخوذتان ليستا من صُنع الحرفيين المعروفين، كما أنها تحمل شعار النقابة ! وأيضاً ذلك الدفتر المتسخ الذي لم يُفتح بعد، والذي يؤمن أغلب أعوان القبيلة بأنه يحوي على أسراراً أو معلومات مهمة !
كما أن إصابتا هذين الرجلين تتطلب معالجة طبية، والمعالجة الطبية تعني المال ! ولا مال وجد بين أمتعتهما القليلة ! ولن يستطيعوا أيضاً مبادلة دمية الحوت الخشبية الصغيرة التي وجدوها معلقة في صدر الرجل الضخم الأسمر !
جلس أعوان القبيلة وذوي الشأن في القافلة يتشاورون أمام الزعيم، فمنهم من رفض وجود هذين الغريبين ووصفهما بالجاسوسين القذرين ! بينما آخرون طالبو بأن يُستفاد منهم مقابل إنقاذ حياتهم ! فمن غير المنطقي أن يُعالجا ويتركا ليذهبا دون أن يدفعا أجراً أو يعوضا عن التأخير المضاعف الذي تعانيه القافلة ! وجماعة قليلة ترفض هذين الحلين وتطالب بالتحقيق معهما لمعرفة نواياهما ومحتوى الدفتر السري الذي يحملانه !
جلس الزعيم متوسطاً الحشد الذي يهمم تارة ويتناقش بحدة تارة أخرى، صمته ووقاره لم يقطعه إرتفاع أصوات من حوله وإحتداد أصواتهم الواحد بعد الآخر ، فالأمر مهم، والكل قلق من تأخر وصولهم إلى المدينة !
معهم حق في خوفهم وقلقهم وإشتباههم ! المنقبين لن يسامحون أي تدخل في أملاكهم ومقاطعاتهم ، والآن القافلة بأكملها تخيم في أحد أكثر الأمكنة خطورة بسبب هذين الرجلين !
كان الزعيم يتابع النقاش ويقرأ العواقب في وجوه الحاضرين، أمسك عصاه الصغيرة وضربها في الأرض ثلاثة مرات -وهذه علامة الإنضباط والهدوء- فسكت كل الحاضرين وإمتلئت الغرفة هواء الترقب والقلق ..
مر الوقت دون أن يتكلم الزعيم، فقد كان يراقب قسمات وجيه رجاله الواحد تلو الآخر، يتأملهم، يقرأ أعينهم بتمهل .
دام الصمت عدة دقائق ثقيلة، بعدها نطق الزعيم بصوته المبحوح الأشبه بالصفير :
– ببقائنا هُنا إخترقنا الكثير من القوانين، وبسبب ذلك أيضاً أنقذنا أرواحاً من الموت، في كلا الحالتين فإن المسؤول هو من يُوجه القافلة برضى رجاله، وقد وافقتموني في تغيير مسار الرحلة، وأرجو أن توافقوني في نقل هذين الرجلين المصابين إلى قرية الموت القريبة من هنا، لقد حصل ماحصل، وإنهاء مهامنا أهم قاعدة نسير عليها هُنا .
صمت الزعيم للحظة قبل أن يكمل :
– أن ننقذ روحاً فهذا يعني إنقاذ مُستقبل، أرجو أن تفكرو بهذا الأمر ملياً قبل أن نغادر صباح الغد !
كان كلام الزعيم واضحاً للجميع ! إما أن يتركوا الرجلين المصابين يموتان من الألم وحيدين هُنا، أو أن تسلك القافلة مساراً فرعياً آخر لتركهما في أيدي القرويين في قرية الموت القريبة من هذه الأنحاء !
بالرغم من أن القرار واضح للجميع، فهم لم ينقذو روحاً لإزهاقها ! تماماً كما قال الزعيم، لكن تركهم في قرية الموت ! إنها قرية قليلة السكان وفقيرة بالكاد تتواصل مع العالم الخارجي !
أسيكون الرجلين -حقاً- بأمان هُناك، خيار الموت جوعاً ببطء وألم غير مستغرب هُناك ! سيموتان بلا شك بكلا الخيارين !
ماذا عن خيار ثالث ؟
ضمهم إلى القافلة وتحمل مصاريف علاجهم حتى يصبحان قادران على العيش بمفردهما ؟
صمتت خيمة الزعيم لثلاث ساعات متصله، وقبل بزوغ فجر الصباح بقليل إنطلق صوت شاب من أحد أطراف الخيمة :
– سأتكفل بهما.
كلمتان بسيطتان، تعني للجميع أن الأمر حُسم ! خيار الموت إبتعد ،وتنفس الجميع الصعداء !
إنقضى المجلس، وتجهزت القافلة للرحيل، بينما لاما و إثنان وأربعون يُنقلان فوق أحد العربات بحذر مع طبيب لعربة كُل منهما، ” شفق” الرجل الذي تكفل بهما هو تاجر أقمشة شاب، ورث هذه التجارة عن أبيه، وبالرغم من صغر سنه فهو جاد صاحب ثقة قادر على تحمل مسئولياته كاملة دون تكاسل، حصافة رأيه وسرعة بديهته رشحته دوماً ليحتل محل ثقة من حوله .
مضت عدة أيام منذ أن وجدت القافلة الشابان وضمتهما.
حالة إثنان وأربعون في تحسن مستمر، والقافلة تجد السير نحو وجهتها التالية، لكن “لاما” أو سبعة وعشرين لم يستطع جسده تحمل أكثر من ذلك !
فبعد اليوم الثاني عشر، توفي لاما ، لم تُقم له جنازة على الإطلاق، بل وبكل هدوء، أشار التجار إلى أحد عُماله أن ينقل الجثة إلى مكان حدده بهمس وسرية له .
وذهب لاما، دون أن يُدفن، أو أن يُخبر صاحبه بفقده ..
في بعض الأحيان، قناع الطيبة يتلبسه الشيطان ليصل إلى مايريد بسرعة، وبدون ان يرتكب الخطايا لذلك .
َََ—-
* مُقتبس من كِتاب أوراق في الريح – أدونيس
الصفحة – 14 –
** نفس المصدر السابق الصفحة – 18 ، 17، 19 –
Posted via m.livejournal.com.
ماشاء الله عليكي كفيتي ووفيتي
وامدونتك ماعمري شفت مثلها ابداع وعبارات وروايات ومعلومات اكثر من رائعه
ربي يبارك لك في وقتك وعمرك
ويعطيكي العافية
اتمنى انك تدخلي مدونتي وتشوفيها
ابغي رايك فيها لاني مبتدئة في التدوين
أهلاً بكِ ياجميله ^^
سعيده أن مكونات المدونه عجبتكِ والله، يعطيك العافيه ياقمر : )
دخلت مدونتك والله يبارك لك في بضاعتك ياحلوه ^^
قامباري