.
القرية .. ملجأ مصمم خصيصاً للإجلاء الطارئ أيام الحرب. تلك القرى بُنيت بمناطق مختلفة حول العالم. كُل قرية حجمها يقارب مدينة “نيويورك” إتساعاً أو أصغر لتصل كمدينة بحجم “الكويت” ..
عدد القرى إجمالاً هو 23 قرية فقط موزعة حول العالم، هذه القرى تركزت بشكل صارخ في الدول القوية المقيدة للحرب أكثر من إعتمادها على الكثافة السكانية لكل منطقة جغرافية !
” السياسة قذرة” جملة إعتادتها أذناي كوجبة فطور يومية. نعم السياسة لاتهتم بك كإنسان ذي كيان ومشاعر أكثر منك كأداة صالحة للإستثمار .
في الحقيقة ما دعاني للتحدث حول هذا الشأن هو الأمر الصادر لفرقتنا وكثير من فرق المنقبين حول العالم بـ :”إيجاد أراضي جديدة صالحة للبناء” .
نعم فكل تجمع بشري ينتج تضخماً سكانياً تعجز الأرض الحالية عن إحتماله، فتنتج الهجرات والنزوح من منطقة لأخرى كنتيجة طبيعية لذلك .
القرى أصبحت مكتظة حتى النخاع بالسكان، مصادر الطعام تقل، الأراضي تصغر، المياه تشح …. والناس يموتون. وعندما يموت أحدهم فيجب أن يوارى الثرى عليه، سيحتاج إلى قبر بالتأكيد !
لكن القبور لا توجد ببساطة ! فهي تحتاج إلى أرض تحفر فيها، والأراضي تشح أكثر فأكثر .
عِندما كُنتُ طِفلاً كان لي صديق يكبرني بثلاث سنوات تماماً، كنا نخوض مغامراتنا في القرية معاً، نلعب ونستكشف كل تلك الأماكن الغامضة لعالمنا الصغير !
كان تخطيط القرية بسيط وواضح جداً، لا يحمل أي مداخل سرية أو كهوف غامضة تؤدي لعوالم أخرى. كانت ببساطة عبارة عن خمس قطاعات موزعة في الأرض المحفورة المربعة ، أربعة منها على كل طرف والخامسة بالمنتصف تماماً، كُل قِطاع كان يحوي على مدرسة ومستوصف والكثر من الوحدات السكنية المبنية كشقق صغيرة بالكاد تكفي لخمسة أشخاص معاً .
ولدتُ أنا في القطاع الأول، بينما صديقي العزيز كان من القطاع الخامس، لايوجد فروق كثيرة بين القطاعات، فالتصميم نفسه والمميزات لاتتغير ، لكن بالنسبة لطفلين شديدي الفضول فإن كل قطاع مختلف بحد ذاته !
القطاع الأول كان مكان إستراحتنا، الناس في الحانة هُناك لايصرخون علينا كما في القطاع الثالث. بينما الشقق في القطاع الخامس غامضة ومثيرة وتدعونا دوماً لإستكشافها حين غياب أصحابها عنها !
كُنا طفلين مثيرين للمشاكل حقاً، وصديقي كان يحب الإستكشاف كثيراً، نمينا مع بعضنا فكرة ” لنصبح منقبين” عندما شاهدنا لأول مرة مجموعة من المنقبين في القطاع الثالث يشربون قهوتهم في الحانة .
كان شعوراً رائعاً ومذهلاً رؤية أولئك الرجال ضخام الجثث الطوال يشربون قهوتهم ويصرخون غاضبين حول شيء ما !
كان أحدهم يشرب بعضاً من الخمر بدلاً من القهوة !
– إنه يشرب عصيراً فاسداً .
همس صديقي مغلقاً أنفه بيديه :
– ورائحته عفنة كذلك !
ضحكت لذلك ! كيف لبالغ أن يشرب شيئاً عفناً دون التنبه لذلك !
– هل نخبره بذلك ؟
لكزني رافضاً، لكني لم ألقي له بالاً وتوجهت نحو ذلك الرجل الضخم، كان يجلس على طرف الطاولة ممكساً بكأسه بقوة ويشخر أثناء تنفسه .
– آمم، سيدي ..
نظر إلي ذلك الرجل بنظرات شرسة، غمرني خوف طفولي كبير، إبتلعت ريقي وأشرت إلى كأسه قائلاً :
– عصيرك فاسد !
– ماذا أيها الفأر ؟!
زمجر ذلك الرجل ملقياً الطاولة بالأرض وكاسراً كأسه بالجدار ! كان تصرفه مرعباً جداً لدرجة تيبس عظلاتي بمكانها رافضة الحراك والهرب !
– أنتم أيها الكائنات المزعجة القذرة التي تصعب الأمور على الجميع ! أنتم أيها الحثالة الأغبياء …
كان الرجل يصرخ ويشتم ويقترب مني أكثر وأكثر، أستطيع رؤية يديه الضخمتان، تلك الخدوش والندوب المحفورة فيها، ذلك الوجه المزمجر، تلك العينان المخيفتان، عيناه كانتا تحملان رعباً لانهاية له !
كانتاً كبيرتان وصغيرتان بنفس الوقت ! تتسع وتصغر ! تطلق شرارات من الشر بإمكانها إختراق الجدران من حولنا ! كانتا تنظران إلي ، إلي وحدي ، نظرات جائعة تنتظر إلتهامي !
عيناه المخيفتان تقترب وتقترب، لكن فجأه إختفت الرؤية ! كل شيء أسود من حولي !
– لماذا لم تتحرك أيها الغبي ؟!
– آه ..
صديقي سحبني وهرب بي بسرعه من أمام ذلك الرجل المخمور ، كان يمسك يدي بقوة شديدة، يدي تؤلمني، قدماي تتحركان دون تحكم مني، تركضان بسرعة، تتعثران ثم تستمران في الركض حتى وصلنا إلى القطاع الأول.
– غبي ..
صرخ صديقي غاضباً ولاهثاً بنفس الوقت ! قطعنا قطاعين ركضاً دون توقف، كان يرتجف من الخوف مثلي تماماً، يبدو أنها ليست المرة الأولى له … رؤية رجل بهذا الجنون ..
– أنت .. أتعرف ماذا يسمون هذا العصير الفاسد ؟
نظرت بتساؤل ، إنها أول مرة أراه، لا أعرف بالتأكيد ماذا يسمى ! كان صديقي يحاول الهدوء، يمسك بيديه ويتركها بشكل متتابع، ينفض الغبار من ملابسه ثم يجلس على الأرض ثانية ..
– إنه خمر، وهو يقود الناس للجنون !
– خمر ؟ !
تنهد، وبدأ برسم خطوط عشوائية في الأرض:
– إعتاد والدي على شرب هذا العصير الفاسد، وكان يتصرف هكذا كل مرة يشربه .
– لذلك مات ؟!
قلتها دون تفكير، والده توفي قبل سنة، إنه لايملك أم أو عائلة لذلك يسكن في الميتم المبني في القطاع الخامس، يوجد ثلاث مياتم فقط، وهي مكتضة تماماً لدرجة أن الإهتمام فيها بالأطفال يقل تدريجياً مع مرور الوقت، فكيف لمبنى أن يتحمل ثلاثمئة طفل دون أيدي عامله أو تمويل مناسب ؟!
أومأ صديقي رأسه صامتاً، لم يتوقف عن رسم تلك الأشياء العشوائية في الأرض، تنهد بقوة ثم وقف :
– حسناً، التحدث لن يفيدنا الآن، لقد تأخر الوقت وعلي العودة للبيت.
– آه..
أومأت برأسي، المنزل قريب من هُنا، لن أواجة أية صعوبة في العودة قبل وقت حضر التجول لغير البالغين:
– هل ستصل قبل الوقت ؟
– أظن ذلك إن أسرعت.
– حسناً أراك غداً .
إبتسم صديقي ولكزني بخبث :
– غداً سنذهب إلى القطاع الرابع ونستكشف بيت الساحرة، مارأيك بذلك ؟!
– بيت الساحرة ؟ واااه هذا مذهل ! لم نفعل ذلك من قبل !
– بالطبع ! ستكون مغامرتنا الكبرى !
– بالتأكيد !
…
بعد ذلك اليوم لم ألتقي بصديقي ثانية، في البداية ظننت أنه خائف من إستكشاف بيت الساحرة لذلك لم يظهر.
في اليوم التالي لم يأتي أيضاً، ظننته خجل من جبنه فقرر ألا يأتي حتى لا أسخر منه، في المرة الثالثة التي لم يظهر فيها، ظننت أنه مل من مجالسة طفل مثلي ووجد أصدقاء آخرين ..
بعد ذلك لم أنتظره أبداً .. فهو لم يظهر أبداً بعد ذلك اليوم ..
سمعت بعض رجال الحانة في القطاع الثالث يتشاجرون حول موضوع ما ، تخفيف السكان والتخلص من الفائض أو شيء كهذا ، كان وجه صاحب الحانة غاضباً جداً عندما صرخ :” السياسة قذرة” .. تلك كانت المرة الأولى التي أسمع فيها هذا المصطلح، وبعد أن كبرت، فهمت سبب غصبه الشديد !
زعماء القرية قرروا إيجاد حل لإكتضاض السكان الشديد، وبما أنه لايوجد طريقة أخرى، فقد تم إجلاء سكان المياتم والتخلص منهم …
حقاً ” السياسة قذرة” …
Posted via m.livejournal.com.