قصص وخواطر .. ||

طِفلٌ يترقبُ القمر – الجزء الأول –

.

كُنا أطفالاً جامحين، ومازلنا كذلك، لكن يامذكرتي العزيزة، إن طفولتنا لا تتعلق بهذا الجموح الذي رضعناه بكل خطوة أو بذلك الفضول الذي نغذية بالكثير من التصرفات التي نعاقب عليها بشدة، الأمر كما لو أن الطفولة ورقة يانصيب رابحة تنتظر صرفها، فإنتظارنا لسن الرشد ونحن فتية يعادل العثور على كنز البحار السبعة !
لكن بالحقيقة بلوغنا سن الرشد سيأخذ من أعمارنا مايقارب العشر سنين وهذا السن هو ماقد يخولنا للخروج من صف الكراتين هذا كما يصفنه نساء الملجأ .
كطفل قضى طفولته في ملجأ مصمم خصيصاً لوقت الأزمات الطارئة طوال حياته القصيرة دون ان يعرف ماهو ذلك ” العالم الحقيقي” الذي يتغنى به الكبار وبما يحويه من عجائب واشجار وانهار وكائنات لاتحصى !
لم يكن البالغون حولي ليتحملو شيئاً كهذا أبداً ! ولطالما رأيت بعضهن يتغنى بتلك الشمس المشرقة على كروم العنب وازهار البنفسج مع تنهيدة حرقة طويلة على اختفائها .
كمولودين في الملجأ لم نعرف أشعة الشمس إلا من خلال الصور المهترئة او الكتب القديمة او حتى من خلال الأفلام المهترئة من استعمالها، وحتى البالغين الذين يتذكرون فعلياً نور الشمس وعاشوا تحتها كانوا في نهاية اعمارهم وبالكتب يستطيعون أن يكملوا قصصهم قبل أن يعطوا في النوم أو يعبسون لنسيانهم باقي القصة التي من المفترض قصها لنا !!

تقنياً نحن نعيش تحت الأرض ، أما مايوجد فوقها من سماء وشمس وأراضٍ وغابات عالم مجهول تماماً لنا وبالكاد يُذكر لقطات مقتضبة عنه. كُنت بالعاشرة من عمري، وكفتى فضولي فلم أترك كبيراً حتى سألته عن تلك الشمس والأرض والسطح الخارجي، لقد شُغفت بذلك العالم الخفي، وحفظت كل ماذُكر من قصص وحروب ودولٍ عاشت على سطح ذلك العالم عن ظهر قلب. فهذا هو كل ماتبقى من – الأرض- التي يتذكرها الكبار، وهذه الأرض هي ام البشر الذين عاشو على سطحها آلاف السنين، هذه الأرض التي اطمح لرؤيتها واستكشافها حالما ابلغ سن الرشد .
لقد كنتُ اختبر حدودي ولطالما حاولت الحفر حتى اصل إلى سطح الأرض قبل ان يكتشف أمري وأعاقب بشدة، لقد كنت أظن أن مجرد الحفر سيفتح لي الباب السحري لرؤية تلك الشمس المشرقة والسهول الممتدة على مد البصر !
لم أكن اهتم لتحذيرات الكبار وتخويفاتهم بتلك الغازات التي تقتلك حالما تستنشقها أو بالأشعة التي تحرق جسدك حالما يلامسه الهواء ! فهم أنفسهم كانوا يصعدون إلى السطح ! على الأقل هنالك من يذهب !
تلك الحرب اللعينة قبل خمسون عاماً أفسدت سطح الأرض بشكل كبير، ولأن قدراً كبيراً من القنابل المحرمة قد استخدم فيها فإن الأرض لم تعد صالحة للعيش بعد الآن ! أما هذه الملاجئ فقد حفرت مؤقتاً حتى تزول آثار الملوثات، لكن يبدو أن سطح الأرض غاضب بشدة لدرجة انه يمنع تسريب هذه الملوثات او إزالتها ! لذا أصبح العيش تحت الأرض أمرا محتماً على بنو البشر .

مما أذكرهُ في طفولتي بالملجأ أولئك الرجال العاملين فوق سطح الأرض، والذين كُنا نُسميهم ” المنقبون ” فلقد كانوا يأتون ويرحلون بإنتظام، أذكُر وجوههم العابسة دوماً وأسنانهم الصفراء القبيحة، كنت قد بنيت إعتقاداً بأن سطح الأرض يسبب مرضاً اسمه النتانة ! فكل المنقبين الذين رأيتهم لهم تلك الرائحة المريعة التي تساعد على خلق مسافة شاسعة بينهم وبين سكان الملجأ ! لكن كطفل فإن فضولي كان أكبر من أن يُقاطع برائحة نتنة أو وجهٍ متجهم.
كُنت أركض نحوهم حالما يدخلون “القرية” ويعودون لغرفهم. كنت أجلس بالرقيق قريباً من أماكن تجمعاتهم في النوادي والحانات أتلصص عليهم وأسترق السمع على قصصهم. لقد كان عالم المنقبين ذلك العالم المشوق المثير الذي لايمكن لأي كان اختراقه ، فكيف لا وهم لايخرجون لسطح الأرض فحسب، بل ويسافرون فيها !!
في بعض الأحيان يأتي منقبين غرباء من ملاجئ وقرى أُخرى ليستريحوا هُنا، وأحياناً لايعود أحد منقبي القرية إلا بعد مرور ثلاثة أو أربعة أشهر !
مالذي يفعلونه ؟ مالذي يبحثون عنه ؟ كيف لهم أن يعيشوا على سطح الأرض القاتلة ؟
كل تلك الأسئلة كانت تدور في عقلي الصغير خالقة رهبة غامضة ومشوقة أمامي، ولطالما رددت علانية :
– سأصبح منقباً !
نعم ! لقد تحققت هذه الأمنية الآن، لقد أصبحت منقباً وأستطيع الخروج إلى سطح الأرض متى أشاء، أستطيع السفر حول الأرض القاتلة التي حيرت عقلي الصغير سابقاً متى أردت وببساطة ، فأنا منقب، ذلك الكائن ذو الرائحة النتنة والأسنان المصغرة ، ذلك الوجه المتجهم دوماً ، هذا ما أصبحته ! إنني المنقب الذي لطالما ارتقت إليه عيناي بإعجاب وتقدير ..

وما رأيك أنت؟

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s